من انتصارات المسلمين في شهر رمضان
نصر الله عز وجل الأوائل في مواطن كثيرة، لأنهم كانوا يحسون إحساساً عميقاً بالإسلام، يرمون عن يد الله تعالى، ويستروحون عبير الجنة، ويسمعون حفيف أجنحة الملائكة.
لقد تعلم الأوائل في ساحة القرآن الكريم، ولذلك كان رمضان عندهم في موسم جهاد للنفس والعدو لا موسم ولائم وحفلات تزخر بأطايب الطعام والشراب، وأكدوا حقيقة واقعة ناصعة هي أن مشقة الصوم لا تقعد بالصائم عن ممارسة أشق الأعمال، وإنما تدفعه إلى الاستزادة منها.. وشتان ما بين واقع المسلمين الأوائل والمسلمين اليوم.. فواقع المسلمين اليوم يرسم علامات استفهام وعلامات تعجب أيضاً على كثرتهم يفتقرون لشئ واحد هو الإحساس بالإسلام! الإحساس بالمبادئ الإلهية والتعاليم المحمدية التي ساد بها أسلافهم.. الإحساس بالقيم الرفيعة التي كانت تختلج في وجدان المسلمين الأوائل.. الإحسان بأن المشقة في سبيل الإسلام إنما هي زاد روحي أغلى من متاع الدنيا.
ولقد حدثت في خلال شهر رمضان معارك عظيمة خاض غمارها المسلمون وهم صائمون، وانتصروا فيها انتصاراً باهراً، ومازال التاريخ يتعطر بأنباء هذه المعارك التي تمدُّ المسلمين بالقوة، وتذكرهم بما يجب عليهم حتى يواصلوا جهادهم في سبيل نصرة دينهم وإعزاز شأن أنفسهم تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"(1).
ومن انتصارات المسلمين في شهر رمضان:
غزوة بدر الكبرى
معركة بدر الكبرى وقعت في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.. قال رب العزة والجلال في شأنها: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون(2).
وفي هذه الغزوة وغيرها لجأ رسول الله { إلى الله تعالى داعياً: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني.. اللهم ٌإن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد..".
ولقد قاتل المسلمون في معركة بدر قتالاً رائعاً يميزه الصدق والإخلاص والحرص على الموت في سبيل الله تعالى، ولقد علم الله منهم هذا، فساندهم وثبتهم وشد عزائمهم وأمدهم بملائكته.. قال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان(3).
وكان شعار الصحابة يوم بدر: أحَدٌ.. أحَدٌ، وتسابق الصحابة إلى الموت رجاء أن يدخلوا الجنة، حتى إن عمير بن الحمام استطال المدة، التي يستغرقها أكل عدة تمرات، فألقاها من يده وقاتلهم حتى قُتل.. فَعَن أنس } قال: انطلق رسول الله { وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله {: "لا يقدمن أحدٌ منكم إلى شيءٍ حتى أكون أنا دونه".. فدنا المشركون فقال {: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض".. قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ(4). فقال رسول الله {: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها.. فأخرج تمرات من قرنه(5)، فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه. إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل(6).
وذكر ابنُ جرير أنه كان يقول:
ركضاً(7) إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
لقد كان يوم بدر يوم القصاص الذي تجلى فيه عدل الله تعالى وقصاصه للمؤمنين الأولين من المشركين الظالمين الذين ساموا الكثير منهم سوء العذاب.
قال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد(. فهذا أمية بن خلف الذي صاح بلالٌ في وجهه قائلاً: "أمية بن خلف رأس الكفر والضلالة لا نجوت إن نجا".. وهذا عقبة بن معيط، وأبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهم من أئمة الكفر والضلالة.. وكانت نهايتهم في بدر عبرة وعظة لكل ظالم تحدثه نفسه بالوقوف في سبيل الحق والعدل.
والمسلمون حينما يتحدثون عن غزوة بدر، لا يتحدثون من حيث نوعية السلاح وكفاءة الأسلحة، ولا من حيث العدد والعدة، ولكن الحديث عن معركة بدر كآية من آيات الله تعالى تقرر حقيقة كونية وسنة إلهية هي أن الصراع بين الحق والباطل صراع موصول وأن الحق مهما قل أتباعه وضعف أشياعه فإن الغلبة له في النهاية، وأن الباطل مهما امتد باعه وكثر أشياعه فإن الحق دامغه ومنتصر عليه لا محالة.
وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار(9).
فتح مكة المكرمة
في اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة، كان فتح مكة المكرمة الذي عز به الإسلام، وارتفعت كلمة الإيمان، ونزل فيه قوله عز وجل: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا(10).
وكان فتح مكة هو الأمنية الكبرى للرسول { لما يترتب عليه من أثر بالغ في حياة الدعوة، فلئن كان النصر في معركة بدر الكبرى تأسيساً لبناء الدولة الإسلامية الفتية، فلقد كان فتح مكة بناء لصرح العقيدة الإسلامية.. ولئن قضى في ساحة بدر على رؤوس الشرك وعبادة الأصنام، فقد قضى في الكعبة والبيت العتيق على الأصنام التي كان يعبدها هؤلاء الطواغيت.. وبهذا الفتح المبين حقق الله تعالى لرسوله { وعده الكريم حيث أنزل عليه ب "الجحفة" وهو مهاجر قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد(11).
دخل الرسول { مكة المكرمة تالياً قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا(12).
وطهر الكعبة المشرفة من دنس الوثنية والشرك.. ووقف { على باب الكعبة قائلا: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".. تالياً قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(13).. ثم قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.. فقال { اذهبوا فأنتم الطلقاء.. لقد نزل هذا العفو الكريم برداً وسلاماً على تلك القلوب القاسية، والتي طالما اضطرمت بالعداوة لهذه النفس الخيرة، وطالما أعماها الحقد عن مجاوبة هذا القلب الرحيم، فقد ظل رسول الله { نيفاً وعشرين عاماً ينشد الخير لهؤلاء الناس، ويحاول بكل وسيلة أن يوجههم إليه، ولكنهم عموا وصموا وبادلوه عداوة بمودة وإساءة بإحسان، وكذبوه وقاطعوه، وأخرجوه وحاربوه، وألبوا عليه وظلوا دهرهم يتربصون به الدوائر، ويتحينون فيه الفرص، فلما أظهره الله عليهم وأمكنه من رقابهم نسي كل ما سلف من مساءاتهم وعداوتهم وكافأهم بالصفح الجميل، والعفو الشامل، فأية نفس عظيمة هذه النفس! إنها نفس الرسول الكريم { الذي لم يكن يضمر قط إلا الخير، ولم يكن يبغي إلا الصلاح.. والذي لم يكن قط جباراً ولا ظالماً ولا منتقماً لنفسه.. قال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريض عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم(14).
إذلال الروم بفتح عمورية
في سنة مائتين وثلاث وعشرين للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك اقتحم المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفاً من جنوده.. وكانت عمورية غرة في جبين الدهر، والدرة والتاج في تأريخ الإسلام.. ولقد نقل إلى الخليفة أن امرأة مسلمة من العفيفات قد وقعن في يد علج(15) من علوج الروم، فلما هم بسبيها نادت: وامعتصماه.. وامعتصماه.. فهز النداء نخوته، وأثار رجولته، وقال: لبيك.. لبيك.. فنهض المعتصم، ولبس لامته(16) وتقلد سلاحه، وركب حصانه، وصاح بالنفير(17) وهو على أبواب قصره.. وأقسم ألا يعود إليه إلا شهيداً محمولاً على الأعناق، أو ظافراً منتقماً للمدينة الغالية المنكوبة، والمرأة المسلمة المغصوبة.. وفي أرض المعركة قاتل الجيش المسلم الروم.. ولم تغب شمس يوم السابع عشر من شهر رمضان سنة مائتين وثلاث عشرين للهجرة إلا وكانت المدينة العريقة العتيدة قد فتحت أمام جيوش المسلمين المنتصرة.. وشوهد المعتصم بن الرشيد يدخل مدينة "عمورية" على صهوة جواده الأصهب(18).. وقد نكس رأسه خضوعاً لله وشكراً على نعمائه.. وعاد المعتصم الظافر إلى بغداد بعد هذا الفتح الكبير.. قال الشاعر أبو تمام يخاطبه:
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة(19) الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
إن كانت بين صروف الدهر(20) من رحم
موصولة أو ذمام غير منقضب(21)
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسب
هزيمة التتار في عين جالوت
سنة ستمائة وثمان وخمسين للهجرة شهد العالم الإسلامي يوماً من أيام الله، أعز الله تعالى فيه المسلمين من هوانٍ(22)، وقواهم من ضعف، وآمنهم من خوف.. ونصرهم على عدو يفوقهم في العدة ويزيد عليهم في العدد. واليوم يوم عين جالوت.. وبطل هذا اليوم سيف الدين قطز..
وشعب التتار أو شعب الدمار أنزل ببلاد المسلمين من الدمار ما لم ينزله ببلد سواها.. استولى على الصين وكوريا، واجتاح بلغاريا، وروسيا، والمجر، وبولونيا، وأخضع تركستان، وسمرقند، وبخارى.. وابتلع الرّي، وهمذان، والتهم: سجستان، وكرمان، وغزنة وما جاورها من بلاد الهند.. فانسابت جيوش "جنكيزخان" في بلاد المسلمين انسياب الثلوج من قُنن(23) الجبال، هلاك وخراب وفساد في مدينة هراة، وبخارى، وبغداد، كانت النكبة الكبرى حيث سقطت بين براثن التتار.. وفي الشام ومصر غمر الشعور الديني سائر النفوس ورجع الناس إلى الله.. ولم يبق للناس من حديث غير الحديث عن لقاء عدو الله وعدوهم، وفي صباح الجمعة لخمس بقين(24) من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة التقى الجمعان في "عين جالوت" الواقعة بين بيسان ونابلس.. ولما رأى "قطز" شدة بأس عدوه خلع خوذته عن رأسه، وألقى بها على الأرض، وردد بصوته الأجش قوله: واإسلاماه.. واإسلاماه.. فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم(25) أفئدتهم بالحمية للإسلام.. فألقى الله الوهن في نفوس "التتار" وقذف في قلوبهم الرعب.. فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم، ومزقوهم شر ممزق.. وأذل الله تعالى "هولاكو" .. ولم تقم للتتار قائمة بعد هذا اليوم.. وسبيل العزة للمؤمنين دائماً.. هذا وبالله تعالى التوفيق.. والحمد لله على نعمة الإسلام.. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
نصر الله عز وجل الأوائل في مواطن كثيرة، لأنهم كانوا يحسون إحساساً عميقاً بالإسلام، يرمون عن يد الله تعالى، ويستروحون عبير الجنة، ويسمعون حفيف أجنحة الملائكة.
لقد تعلم الأوائل في ساحة القرآن الكريم، ولذلك كان رمضان عندهم في موسم جهاد للنفس والعدو لا موسم ولائم وحفلات تزخر بأطايب الطعام والشراب، وأكدوا حقيقة واقعة ناصعة هي أن مشقة الصوم لا تقعد بالصائم عن ممارسة أشق الأعمال، وإنما تدفعه إلى الاستزادة منها.. وشتان ما بين واقع المسلمين الأوائل والمسلمين اليوم.. فواقع المسلمين اليوم يرسم علامات استفهام وعلامات تعجب أيضاً على كثرتهم يفتقرون لشئ واحد هو الإحساس بالإسلام! الإحساس بالمبادئ الإلهية والتعاليم المحمدية التي ساد بها أسلافهم.. الإحساس بالقيم الرفيعة التي كانت تختلج في وجدان المسلمين الأوائل.. الإحسان بأن المشقة في سبيل الإسلام إنما هي زاد روحي أغلى من متاع الدنيا.
ولقد حدثت في خلال شهر رمضان معارك عظيمة خاض غمارها المسلمون وهم صائمون، وانتصروا فيها انتصاراً باهراً، ومازال التاريخ يتعطر بأنباء هذه المعارك التي تمدُّ المسلمين بالقوة، وتذكرهم بما يجب عليهم حتى يواصلوا جهادهم في سبيل نصرة دينهم وإعزاز شأن أنفسهم تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"(1).
ومن انتصارات المسلمين في شهر رمضان:
غزوة بدر الكبرى
معركة بدر الكبرى وقعت في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.. قال رب العزة والجلال في شأنها: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون(2).
وفي هذه الغزوة وغيرها لجأ رسول الله { إلى الله تعالى داعياً: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني.. اللهم ٌإن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد..".
ولقد قاتل المسلمون في معركة بدر قتالاً رائعاً يميزه الصدق والإخلاص والحرص على الموت في سبيل الله تعالى، ولقد علم الله منهم هذا، فساندهم وثبتهم وشد عزائمهم وأمدهم بملائكته.. قال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان(3).
وكان شعار الصحابة يوم بدر: أحَدٌ.. أحَدٌ، وتسابق الصحابة إلى الموت رجاء أن يدخلوا الجنة، حتى إن عمير بن الحمام استطال المدة، التي يستغرقها أكل عدة تمرات، فألقاها من يده وقاتلهم حتى قُتل.. فَعَن أنس } قال: انطلق رسول الله { وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله {: "لا يقدمن أحدٌ منكم إلى شيءٍ حتى أكون أنا دونه".. فدنا المشركون فقال {: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض".. قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ(4). فقال رسول الله {: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها.. فأخرج تمرات من قرنه(5)، فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه. إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل(6).
وذكر ابنُ جرير أنه كان يقول:
ركضاً(7) إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
لقد كان يوم بدر يوم القصاص الذي تجلى فيه عدل الله تعالى وقصاصه للمؤمنين الأولين من المشركين الظالمين الذين ساموا الكثير منهم سوء العذاب.
قال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد(. فهذا أمية بن خلف الذي صاح بلالٌ في وجهه قائلاً: "أمية بن خلف رأس الكفر والضلالة لا نجوت إن نجا".. وهذا عقبة بن معيط، وأبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهم من أئمة الكفر والضلالة.. وكانت نهايتهم في بدر عبرة وعظة لكل ظالم تحدثه نفسه بالوقوف في سبيل الحق والعدل.
والمسلمون حينما يتحدثون عن غزوة بدر، لا يتحدثون من حيث نوعية السلاح وكفاءة الأسلحة، ولا من حيث العدد والعدة، ولكن الحديث عن معركة بدر كآية من آيات الله تعالى تقرر حقيقة كونية وسنة إلهية هي أن الصراع بين الحق والباطل صراع موصول وأن الحق مهما قل أتباعه وضعف أشياعه فإن الغلبة له في النهاية، وأن الباطل مهما امتد باعه وكثر أشياعه فإن الحق دامغه ومنتصر عليه لا محالة.
وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار(9).
فتح مكة المكرمة
في اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة، كان فتح مكة المكرمة الذي عز به الإسلام، وارتفعت كلمة الإيمان، ونزل فيه قوله عز وجل: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا(10).
وكان فتح مكة هو الأمنية الكبرى للرسول { لما يترتب عليه من أثر بالغ في حياة الدعوة، فلئن كان النصر في معركة بدر الكبرى تأسيساً لبناء الدولة الإسلامية الفتية، فلقد كان فتح مكة بناء لصرح العقيدة الإسلامية.. ولئن قضى في ساحة بدر على رؤوس الشرك وعبادة الأصنام، فقد قضى في الكعبة والبيت العتيق على الأصنام التي كان يعبدها هؤلاء الطواغيت.. وبهذا الفتح المبين حقق الله تعالى لرسوله { وعده الكريم حيث أنزل عليه ب "الجحفة" وهو مهاجر قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد(11).
دخل الرسول { مكة المكرمة تالياً قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا(12).
وطهر الكعبة المشرفة من دنس الوثنية والشرك.. ووقف { على باب الكعبة قائلا: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".. تالياً قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(13).. ثم قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.. فقال { اذهبوا فأنتم الطلقاء.. لقد نزل هذا العفو الكريم برداً وسلاماً على تلك القلوب القاسية، والتي طالما اضطرمت بالعداوة لهذه النفس الخيرة، وطالما أعماها الحقد عن مجاوبة هذا القلب الرحيم، فقد ظل رسول الله { نيفاً وعشرين عاماً ينشد الخير لهؤلاء الناس، ويحاول بكل وسيلة أن يوجههم إليه، ولكنهم عموا وصموا وبادلوه عداوة بمودة وإساءة بإحسان، وكذبوه وقاطعوه، وأخرجوه وحاربوه، وألبوا عليه وظلوا دهرهم يتربصون به الدوائر، ويتحينون فيه الفرص، فلما أظهره الله عليهم وأمكنه من رقابهم نسي كل ما سلف من مساءاتهم وعداوتهم وكافأهم بالصفح الجميل، والعفو الشامل، فأية نفس عظيمة هذه النفس! إنها نفس الرسول الكريم { الذي لم يكن يضمر قط إلا الخير، ولم يكن يبغي إلا الصلاح.. والذي لم يكن قط جباراً ولا ظالماً ولا منتقماً لنفسه.. قال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريض عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم(14).
إذلال الروم بفتح عمورية
في سنة مائتين وثلاث وعشرين للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك اقتحم المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفاً من جنوده.. وكانت عمورية غرة في جبين الدهر، والدرة والتاج في تأريخ الإسلام.. ولقد نقل إلى الخليفة أن امرأة مسلمة من العفيفات قد وقعن في يد علج(15) من علوج الروم، فلما هم بسبيها نادت: وامعتصماه.. وامعتصماه.. فهز النداء نخوته، وأثار رجولته، وقال: لبيك.. لبيك.. فنهض المعتصم، ولبس لامته(16) وتقلد سلاحه، وركب حصانه، وصاح بالنفير(17) وهو على أبواب قصره.. وأقسم ألا يعود إليه إلا شهيداً محمولاً على الأعناق، أو ظافراً منتقماً للمدينة الغالية المنكوبة، والمرأة المسلمة المغصوبة.. وفي أرض المعركة قاتل الجيش المسلم الروم.. ولم تغب شمس يوم السابع عشر من شهر رمضان سنة مائتين وثلاث عشرين للهجرة إلا وكانت المدينة العريقة العتيدة قد فتحت أمام جيوش المسلمين المنتصرة.. وشوهد المعتصم بن الرشيد يدخل مدينة "عمورية" على صهوة جواده الأصهب(18).. وقد نكس رأسه خضوعاً لله وشكراً على نعمائه.. وعاد المعتصم الظافر إلى بغداد بعد هذا الفتح الكبير.. قال الشاعر أبو تمام يخاطبه:
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة(19) الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
إن كانت بين صروف الدهر(20) من رحم
موصولة أو ذمام غير منقضب(21)
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسب
هزيمة التتار في عين جالوت
سنة ستمائة وثمان وخمسين للهجرة شهد العالم الإسلامي يوماً من أيام الله، أعز الله تعالى فيه المسلمين من هوانٍ(22)، وقواهم من ضعف، وآمنهم من خوف.. ونصرهم على عدو يفوقهم في العدة ويزيد عليهم في العدد. واليوم يوم عين جالوت.. وبطل هذا اليوم سيف الدين قطز..
وشعب التتار أو شعب الدمار أنزل ببلاد المسلمين من الدمار ما لم ينزله ببلد سواها.. استولى على الصين وكوريا، واجتاح بلغاريا، وروسيا، والمجر، وبولونيا، وأخضع تركستان، وسمرقند، وبخارى.. وابتلع الرّي، وهمذان، والتهم: سجستان، وكرمان، وغزنة وما جاورها من بلاد الهند.. فانسابت جيوش "جنكيزخان" في بلاد المسلمين انسياب الثلوج من قُنن(23) الجبال، هلاك وخراب وفساد في مدينة هراة، وبخارى، وبغداد، كانت النكبة الكبرى حيث سقطت بين براثن التتار.. وفي الشام ومصر غمر الشعور الديني سائر النفوس ورجع الناس إلى الله.. ولم يبق للناس من حديث غير الحديث عن لقاء عدو الله وعدوهم، وفي صباح الجمعة لخمس بقين(24) من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة التقى الجمعان في "عين جالوت" الواقعة بين بيسان ونابلس.. ولما رأى "قطز" شدة بأس عدوه خلع خوذته عن رأسه، وألقى بها على الأرض، وردد بصوته الأجش قوله: واإسلاماه.. واإسلاماه.. فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم(25) أفئدتهم بالحمية للإسلام.. فألقى الله الوهن في نفوس "التتار" وقذف في قلوبهم الرعب.. فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم، ومزقوهم شر ممزق.. وأذل الله تعالى "هولاكو" .. ولم تقم للتتار قائمة بعد هذا اليوم.. وسبيل العزة للمؤمنين دائماً.. هذا وبالله تعالى التوفيق.. والحمد لله على نعمة الإسلام.. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.