بسم الله الرحم الرحيم
تكملة للموضوع السابق
نظرية التطور … تصحيح المفاهيم أولا
اسعد الوصيبعي 01 مارس 2006
بعد التعليقات الساخنة على موضوع التصميم الذكي… صفعة أخرى، والتي في معظمها انحازت لمناقشة نظرية التطور في مقابل “الخلق المفاجئ” أكثر من مناقشة مبدأ التصميم الذكي الحديث والذي فشل في إثبات نفسه علميا عند أول محك في محاكمة قضية دوفر وقد توافرت له كافة المصادر والإمكانيات العلمية، ولم يستطع أن يخرج من تنظيره الديني. لقد فشل هذا المبدأ في تحويل ظاهرة التطور إلى عملية تسيطر عليها قوى خارحية وتوجهها إلى ما وصلت إليه.
بعد هذه التعليقات، رأيت أن نبدأ صفحة علمية جديدة على دروب، نناقش فيها ما يورده رواد ومؤمنو نظرية التطور من أدلة علمية تعتبر الأساس للبرهنة على ثبات قيام هذه النظرية. وفي المقابل نفتح المجال، لأي أدلة علمية أخرى قد يوردها البعض، أو نواقص في هذه النظرية ونحاول أن نرى ما هي ردة فعل العلم عليها.
إلا أنه يتعين علينا قبل أن نبدأ بطرح النقاش حول نظرية التطور، أن نعي أن الحديث هنا لا يدور عن معتقدات دينية، وليس للحديث أي صلة بفكرة وجود “الله”، بل هو حديث علمي بحت. علينا أن لا نبدأ بأحكام مسبقة نفرضها على نظرية التطور، بل أن نكون أكثر تقبلا لها بدون أن نخاف من تبعاتها الدينية.
ولكي أسهل هذه العملية، بودي أن أطرح ما سمعته مرة في محاضرة للدكتور أحمد الوائلي وهو شيخ ديني وعنده درجة علمية رفيعة في الفقه الإسلامي. يرى هذا الشيخ أن نظرية التطور من الممكن أن تطرح حلا لقضية تاريخية إسلامية (أو توحيدية) فيها خلاف وهي مسألة زوجات أبناء آدم: هل كن أخوات لهم أم هن مخلوقات وموجودات من جنس إنسان أو قريب منه قبل آدم كما تقول نظرية التطور. هذه كانت خلاصة ما طرحه الشيخ لتخطي الجدل الديني حول هذه النظرية العلمية، والتي آمل أن أكون بها قد أزحت جدارا يفصل بيننا وبين أن نفتح عقولنا لفهم الأدلة العلمية بعيدا عن الاعتبارات الدينية. فالشيخ المعروف، لم ير ضيرا من التسليم بالنظرية، ولم ير فيها تعارضا مع فكرة وجود “الله”. وكذلك غيره من الدينين من طوائف دينية مختلفة.
وقبل أن نطرح الأدلة العلمية، لا بد أن نؤكد على أن يكون النقاش حول الأدلة العلمية وليس على الدلالات العقائدية. ولست هنا لأنقل النظرة القرآنية أو الإنجليية للنظرية التطور.
والبداية بهذه الترجمة لأسئلة من المفروض أن ترفع الالتباسات والمفاهيم الخاطئة حول نظرية التطور. هذه بعض الأسئلة وهناك الكثير غيرها التي يجب أن تطرح بشكل صحيح. بعض المفاهيم يطرحها معارضو النظرية بحسن أو سوء نية، وبعضها تشويه إعلامي لما بدأه داروين وتطور في العلم.
ما هي نظرية التطور؟
نظرية تطور الكائنات الحية تشير إلى التغييرات التراكمية التي حدثت على سكان كوكب الأرض عبر مليارات السنين (3.8 مليار سنة تقريبا). وتقول هذه النظرية أن التغييرات حدثت على المستوى الجيني كتغييرات جينية (mutation) أو اتحادات (recombination) مختلفة خلال عملية التناسل وانتقال الجينات من جيل إلى جيل. في بعض الأحيان، ترث الأجيال اللاحقة صفات تمكنهم من البقاء أحياء وتعطيهم ميزة التكاثر في بيئاتهم، وهذه بطبيعة الحال تزيد من أعدادهم، فيما يبقى الأقل ميزة عرضة لكل أنواع الانقراض. وهذه العملية هي ما تعرف بـ “الاختيار الطبيعي”. والصفات الغير جينية (أو الصفات المكتسبة)، مثل نمو العضلات بسبب نوع من الغذاء مثلا، لا يمكن أن تنتقل إلى الأجيال اللاحقة ولا تمثل بالتالي أمثلة على نظرية التطور.
أليست “نظرية التطور” تبقى نظرية وهي بالتالي غير مثبتة؟
في العلوم، النظرية هي مبدأ يشرح ظاهرة معروفة في الكون، ويتعرض هذا المبدأ للاختبارات العلمية الصارمة حتى يتحول إلى نظرية.
النظرية العلمية، على هذا الأساس، تشرح المفهوم بشكل عام وتربط الأدلة والحقائق مع بعضها البعض. وفي العلم، تقوم النظرية حتى يثبت عكسها، ولا يمكن أن تثبت صحتها. ونظرية التطور صمدت أمام الآلاف من الاختبارات العلمية، ولم يستطع أحد في الأوساط العلمية أن يثبت خطأها منذ أن أخرجها داروين قبل أكثر من 150 عاما.
والحقيقة أن كثيراً من التقدم العلمي في مجالات العلوم المختلفة كالفيزياء، والكيمياء العضوية، والجيولوجيا تدعم هذه النظرية، وقد هذبتها، ووسعتها بشكل بعيد عن ما كان داروين يتخيله.
هناك معامل مخبرية لتجارب نظرية التطور على مدى ما يقارب 50 عاما، كلها تدرس تغير الجينات على مدى أجيال وكيفية تطورها وانتقال الجينات عبرها.
هل هي نظرية التطور، أم نظرية النشوء؟
لا. هي نظرية التطور (Theory of Evolution)، وهي نظرية تشرح أن الكائنات الحياة تغيرت على مر الزمن وتطورت من حياة بدائية إلى أن وصلنا إلى المخلوقات التي نراها حولنا. أي أن نظرية التطور لا تشرح “كيف بدأت الحياة” ولا أعلم كيف أو لماذا ألصقت كلمت “النشوء” بالمصطلح العربي لنظرية التطور.
إن كيفية نشوء الحياة على الأرض هو سؤال أحيائي (بيولوجي) بحت. وبغض النظر عن كيف تكونت الحياة، وما هي المكونات الأساسية والتي قال بها علماء كثيرون منهم فريد هويل، إلا أن الاهتمام الأساسي لنظرية التطور هي ما حدث من تغيرات بعد بداية الحياة. كما أن كتاب داروين هو في الأساس عن “أصل الأنواع” وليس عن أصل الحياة.
هل “التطور” عملية عشوائية؟
التطور ليس عملية عشوائية أبدا. قد تكون التغيرات الجينية التي تحدث على الكائنات الحية عشوائية، لكن الاختيار الطبيعي ليس عشوائيا على الإطلاق. إن نجاة أي نوع وتمكنه من التكاثر بنجاح، هو مرتبط مباشرة بالجينات والصفات التي ورثها ذلك النوع من أسلفه في بيئته المحلية. ومعيشة ذلك المخلوق وتمكنه من التكاثر وإنتاج أجيال يعتمد إن كان يحمل جينات تنتج صفات تتلاءم مع البيئة المحيطة به.
هل التطور يعني “سلّم” تتطور فيه كل أشكال الحياة ويفوز فيها الإنسان؟
مع العلم بأن نظرية التطور تقول بالاختيار الطبيعي، إلا أنها أيضا تقول أن هناك مخلوقات عندها القدرات والمقومات الكافية لأن تبقى على الأرض. وفي أمثلة التطور، هناك العديد من الكائنات الحية بقيت على ما كانت عليه منذ زمن، مع تغيرات طفيفة جرت عليها. وهذا لا يناقض النظرية. ومن هذه الأمثلة سمك الطحالب، الفطريات، سمك القرش، وسرطان البحر.
ومن المهم القول هنا، أن الكائنات الحية التي نراها حولنا من زواحف وأسماك وطيور… كلها كائنات معقدة ومتطورة مثل ما هو الإنسان على حسب نظرية التطور. والقول بأن دببة اليوم أصبحت حيتان هو تلفيق أو عدم فهم لنظرية التطور.
هل “التطور” و “البقاء للأصلح” هما نفس الشيء؟
كلا! نظرية التطور و “البقاء للأصلح” هما مبدأين مختلفين. نظرية التطور تشير إلى التغيرات التي حدثت على الكائنات الحية على مر الزمن. أما “البقاء للأصلح” فهو مصطلح شائع للتعبير عن الاختيار الطبيعي. في حين أن الاختيار الطبيعي يشير إلى الآلية التي من خلالها تقول نظرية التطور أن المخلوقات ذات الصفات الملائمة أكثر لبيئاتها لها درجة أعلى في النجاة والبقاء والتكاثر، يقول مصطلح “البقاء للأصلح” بأن المخلوق الأكبر، أو الأذكى، أو الأسرع هو من ينجو وهو ما يخلق التوهم بالمنافسة أو يقلل من شأن التكاثر والتعاون. في النظرة البيولوجية، الأصلح هو من يتمتع بصفات تمكنه من البقاء والتكاثر. إن بقاء المخلوق بدون أن يتمكن من تمرير صفاته الجينية عبر التكاثر، لا يعتبر “أصلح” بيولوجيا. والكثير من الكائنات الحية تعتبر “الأصلح” بيولوجيا لأنها تتعاون مع الكائنات الأخرى بدل أن تتنافس معها.
كيف تتطور المخلوقات؟
المخلوقات لا تتطور! الأجيال تتطور(Population Evolution). لأن الأفراد يختلفون في قدراتهم وصفاتهم الخلقية. ولكن بعض الأجيال تتمكن من البقاء والتكاثر أكثر من غيرها في ظل ظروف بيئية معينة. وبالتالي فأفراد هذه الجماعات تتمكن من البقاء، وبالتكاثر تتمكن أيضا من تمرير الصفات المميزة إلى الأجيال اللاحقة. وبالتالي شعوب هذه الكائنات تتطور.
هل هناك “تعديلات جينية” أو طفرات مفيدة؟
نعم، والأدلة على ذلك كثير. وهذا سؤال بيولوجي لا يمت إلى نظرية التطور. إلا أن الكثير من نقاد النظرية، يطرحونه على أساس أنه سؤال جوهري يقدح في النظرية. والواقع أن هناك مثلا تغيرات جينية تجعل لدى الإنسان مناعة من الإصابة بفيروس الإيدز (أو على الأقل أن تكون إصابة الخلايا بفيروس HIV صعبة جدا). وغيره كثير من الأمثلة التي تعطي دلالات على طفرات جينية، تختلف الطفرات التشويهية التي تتبادر إلى أذهاننا.
هل تثبت نظرية التطور أن “الله” غير موجود؟
كلا! كثير من أنصار نظرية التطور ، وحتى المتدينين مثل البابا يوحنا بولس الثاني ناقشوا كثيرا في أن نظرية التطور المثبتة بالأدلة العلمية لا تتعارض مع فكرة وجود “الله”. وقالوا بأن نظرية التطور تشرح كيف تطورت الحياة على كوكب الأرض. ومثلها مثل النظريات العلمية الأخرى، فإن نظرية التطور تتعامل مع المادة والأجسام والاختبارات العلمية وليس لها تدخل في فكرة وجود “الله” أو معتقدات البشر الدينية.
هل هناك أدلة علمية على نظرية التطور؟
على مدى أكثر من 150 عاما منذ أن تقدم داروين بنظرية التطور بناء على الانتخاب الطبيعي، والساحة امتلأت بجبال من الأدلة التي تدعم هذه النظرية. توسعت سجلات الأحافير، واكتشف إل DNA وفهم التأثيرات الإشعاعية (radioactive decay)، وملاحظة الاختيار الطبيعي في المعامل وعلى الطبيعة، وأدلة مجموعات العوامل الوراثية على كائنات حية مختلفة، من ضمنها الجنس البشري، كل ذلك مثل تشييدا وإسنادا علميا لنظرية التطور.
والأدلة متفرعة متعددة الاتجاهات منها:
1- أدلة الأحافير: إما على حسب وجود وترابط هذه الأحافير في طبقات الأرض لمعرفة تاريخها الزمني أو بمقارنة المواد الإشعاعية مثل اليورانيوم والبوتاسيم…
الخط الإحفوري الزمني المتوفر لدينا، وإن لم يكن كاملا إلا أنه يعتبر من أفضل الأدلة التي تشرح لنا كيف تطورت الكائنات، وبوجود الأحافير الانتقالية فيه. كذلك هناك أدلة على تطور “خلوي” في أعضاء الكائنات المنقرضة.
2- أدلة من علم التشريح: تشريح الكائن الحية يتوافر على شواهد هائلة عن تاريخ هذه الكائنات. ولا يمكن تفسير تطور ميزات هذه الكائنات علميا، إلا من خلال نظرية التطور. ومنها الأعضاء الغير فاعلة مثل أصابع الأقدام الضامرة.
3- علم البيئة: وتطور وتكيف الحيوانات بتغير أحجامها. وفي الأنظمة البيئية، إما أن يتكيف الحيوان ليتمكن من البقاء والتكاثر، أو لا، فينقرض. وهذا يعطينا الدلالة على أن الكائنات الحية عندها قابلية تغيير الجينات لتتكيف أمثر مع بيئاتها.
::. تطور فتحة الأنف عبر 50 مليون سنة من باكيكيتوس إلى الحيتان
(هذه مقدمة بسيطة عن العلوم والبحوث المستمرة في هذا الميدان، إلا أن التفصيل في هذه الأدلة وغيرها قد نسوق ترجمها فيما بعد. الأهم هنا أن نشير ومن خلال المصادر الآتية أن التجارب العلمية القائمة على قدم وساق، ليست تفسيرات فلسفية لقراءة تنظيرية لأحافير، بل هي اختبارات علمية هدفها وصف الظاهرة بأكبر دقة ممكنة وعلى حسب الأدلة الموجودة).
راجع الأدلة العلمية على نظرية التطور
راجع أدلة علمية وأمثلة حية على هذه الأدلة
هل تدلنا الأحافير على كامل القصة وتاريخ الحياة؟
يقول معارضو نظرية التطور بأن الثغرات في سلسلة الأحافير تمثل إثباتا على أن النظرية غير صحيحة. ويقولون بأن الأحافير فشلت في استخراج “الكائنات الانتقالية” والتي تمثل وجود كائنات في مراحل انتقالية على خط التطور.
بالتأكيد بأن سلسلة الأحافير فيها فجوات، وذلك لأن الظروف التي تتطلب أن يتحول أي كائن حي إلى أحفورة هي ظروف نادرة جدا منذ بدء الحياة على الأرض. إن الأحافير الموجودة اليوم لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من المخلوقات التي عاشت وماتت على كوكب الأرض. ولذلك، فإن الكثير من قطع الأحجية مازلت مفقودة وربما لن توجد في المستقبل. وبالرغم من ذلك، فإن هناك كم هائل من الأحافير التي تمثل مراحل انتقالية بين السمك والبرمائيات، والزواحف والثدييات، والدينصورات والطيور في عدة أجناس حية مثل الحيتان والخيول.
بعد هذا الطرح لهذه الأسئلة، وتصحيح المفاهيم حول هذه النظرية ووضعها في صورتها العلمية الصحيحة، بقي لنا أن نفتح عقولنا ونبدأ في فهم السياق العلمي الذي تطرح فيه النظرية. هناك الكثير ممن يعرضون النظرية بصورة تجعلها مشوهة رغبة منهم في أن يسود الحديث عن أن هذه هي نظرية معتمدة على تخمين العلماء أو تفسيراتهم. وهذا يخالف الواقع والذي يزخر بمئات الأبحاث التي يمكننا أن ننظر إليها بدون أن نحكم على النظرية مسبقا
تكملة للموضوع السابق
نظرية التطور … تصحيح المفاهيم أولا
اسعد الوصيبعي 01 مارس 2006
بعد التعليقات الساخنة على موضوع التصميم الذكي… صفعة أخرى، والتي في معظمها انحازت لمناقشة نظرية التطور في مقابل “الخلق المفاجئ” أكثر من مناقشة مبدأ التصميم الذكي الحديث والذي فشل في إثبات نفسه علميا عند أول محك في محاكمة قضية دوفر وقد توافرت له كافة المصادر والإمكانيات العلمية، ولم يستطع أن يخرج من تنظيره الديني. لقد فشل هذا المبدأ في تحويل ظاهرة التطور إلى عملية تسيطر عليها قوى خارحية وتوجهها إلى ما وصلت إليه.
بعد هذه التعليقات، رأيت أن نبدأ صفحة علمية جديدة على دروب، نناقش فيها ما يورده رواد ومؤمنو نظرية التطور من أدلة علمية تعتبر الأساس للبرهنة على ثبات قيام هذه النظرية. وفي المقابل نفتح المجال، لأي أدلة علمية أخرى قد يوردها البعض، أو نواقص في هذه النظرية ونحاول أن نرى ما هي ردة فعل العلم عليها.
إلا أنه يتعين علينا قبل أن نبدأ بطرح النقاش حول نظرية التطور، أن نعي أن الحديث هنا لا يدور عن معتقدات دينية، وليس للحديث أي صلة بفكرة وجود “الله”، بل هو حديث علمي بحت. علينا أن لا نبدأ بأحكام مسبقة نفرضها على نظرية التطور، بل أن نكون أكثر تقبلا لها بدون أن نخاف من تبعاتها الدينية.
ولكي أسهل هذه العملية، بودي أن أطرح ما سمعته مرة في محاضرة للدكتور أحمد الوائلي وهو شيخ ديني وعنده درجة علمية رفيعة في الفقه الإسلامي. يرى هذا الشيخ أن نظرية التطور من الممكن أن تطرح حلا لقضية تاريخية إسلامية (أو توحيدية) فيها خلاف وهي مسألة زوجات أبناء آدم: هل كن أخوات لهم أم هن مخلوقات وموجودات من جنس إنسان أو قريب منه قبل آدم كما تقول نظرية التطور. هذه كانت خلاصة ما طرحه الشيخ لتخطي الجدل الديني حول هذه النظرية العلمية، والتي آمل أن أكون بها قد أزحت جدارا يفصل بيننا وبين أن نفتح عقولنا لفهم الأدلة العلمية بعيدا عن الاعتبارات الدينية. فالشيخ المعروف، لم ير ضيرا من التسليم بالنظرية، ولم ير فيها تعارضا مع فكرة وجود “الله”. وكذلك غيره من الدينين من طوائف دينية مختلفة.
وقبل أن نطرح الأدلة العلمية، لا بد أن نؤكد على أن يكون النقاش حول الأدلة العلمية وليس على الدلالات العقائدية. ولست هنا لأنقل النظرة القرآنية أو الإنجليية للنظرية التطور.
والبداية بهذه الترجمة لأسئلة من المفروض أن ترفع الالتباسات والمفاهيم الخاطئة حول نظرية التطور. هذه بعض الأسئلة وهناك الكثير غيرها التي يجب أن تطرح بشكل صحيح. بعض المفاهيم يطرحها معارضو النظرية بحسن أو سوء نية، وبعضها تشويه إعلامي لما بدأه داروين وتطور في العلم.
ما هي نظرية التطور؟
نظرية تطور الكائنات الحية تشير إلى التغييرات التراكمية التي حدثت على سكان كوكب الأرض عبر مليارات السنين (3.8 مليار سنة تقريبا). وتقول هذه النظرية أن التغييرات حدثت على المستوى الجيني كتغييرات جينية (mutation) أو اتحادات (recombination) مختلفة خلال عملية التناسل وانتقال الجينات من جيل إلى جيل. في بعض الأحيان، ترث الأجيال اللاحقة صفات تمكنهم من البقاء أحياء وتعطيهم ميزة التكاثر في بيئاتهم، وهذه بطبيعة الحال تزيد من أعدادهم، فيما يبقى الأقل ميزة عرضة لكل أنواع الانقراض. وهذه العملية هي ما تعرف بـ “الاختيار الطبيعي”. والصفات الغير جينية (أو الصفات المكتسبة)، مثل نمو العضلات بسبب نوع من الغذاء مثلا، لا يمكن أن تنتقل إلى الأجيال اللاحقة ولا تمثل بالتالي أمثلة على نظرية التطور.
أليست “نظرية التطور” تبقى نظرية وهي بالتالي غير مثبتة؟
في العلوم، النظرية هي مبدأ يشرح ظاهرة معروفة في الكون، ويتعرض هذا المبدأ للاختبارات العلمية الصارمة حتى يتحول إلى نظرية.
النظرية العلمية، على هذا الأساس، تشرح المفهوم بشكل عام وتربط الأدلة والحقائق مع بعضها البعض. وفي العلم، تقوم النظرية حتى يثبت عكسها، ولا يمكن أن تثبت صحتها. ونظرية التطور صمدت أمام الآلاف من الاختبارات العلمية، ولم يستطع أحد في الأوساط العلمية أن يثبت خطأها منذ أن أخرجها داروين قبل أكثر من 150 عاما.
والحقيقة أن كثيراً من التقدم العلمي في مجالات العلوم المختلفة كالفيزياء، والكيمياء العضوية، والجيولوجيا تدعم هذه النظرية، وقد هذبتها، ووسعتها بشكل بعيد عن ما كان داروين يتخيله.
هناك معامل مخبرية لتجارب نظرية التطور على مدى ما يقارب 50 عاما، كلها تدرس تغير الجينات على مدى أجيال وكيفية تطورها وانتقال الجينات عبرها.
هل هي نظرية التطور، أم نظرية النشوء؟
لا. هي نظرية التطور (Theory of Evolution)، وهي نظرية تشرح أن الكائنات الحياة تغيرت على مر الزمن وتطورت من حياة بدائية إلى أن وصلنا إلى المخلوقات التي نراها حولنا. أي أن نظرية التطور لا تشرح “كيف بدأت الحياة” ولا أعلم كيف أو لماذا ألصقت كلمت “النشوء” بالمصطلح العربي لنظرية التطور.
إن كيفية نشوء الحياة على الأرض هو سؤال أحيائي (بيولوجي) بحت. وبغض النظر عن كيف تكونت الحياة، وما هي المكونات الأساسية والتي قال بها علماء كثيرون منهم فريد هويل، إلا أن الاهتمام الأساسي لنظرية التطور هي ما حدث من تغيرات بعد بداية الحياة. كما أن كتاب داروين هو في الأساس عن “أصل الأنواع” وليس عن أصل الحياة.
هل “التطور” عملية عشوائية؟
التطور ليس عملية عشوائية أبدا. قد تكون التغيرات الجينية التي تحدث على الكائنات الحية عشوائية، لكن الاختيار الطبيعي ليس عشوائيا على الإطلاق. إن نجاة أي نوع وتمكنه من التكاثر بنجاح، هو مرتبط مباشرة بالجينات والصفات التي ورثها ذلك النوع من أسلفه في بيئته المحلية. ومعيشة ذلك المخلوق وتمكنه من التكاثر وإنتاج أجيال يعتمد إن كان يحمل جينات تنتج صفات تتلاءم مع البيئة المحيطة به.
هل التطور يعني “سلّم” تتطور فيه كل أشكال الحياة ويفوز فيها الإنسان؟
مع العلم بأن نظرية التطور تقول بالاختيار الطبيعي، إلا أنها أيضا تقول أن هناك مخلوقات عندها القدرات والمقومات الكافية لأن تبقى على الأرض. وفي أمثلة التطور، هناك العديد من الكائنات الحية بقيت على ما كانت عليه منذ زمن، مع تغيرات طفيفة جرت عليها. وهذا لا يناقض النظرية. ومن هذه الأمثلة سمك الطحالب، الفطريات، سمك القرش، وسرطان البحر.
ومن المهم القول هنا، أن الكائنات الحية التي نراها حولنا من زواحف وأسماك وطيور… كلها كائنات معقدة ومتطورة مثل ما هو الإنسان على حسب نظرية التطور. والقول بأن دببة اليوم أصبحت حيتان هو تلفيق أو عدم فهم لنظرية التطور.
هل “التطور” و “البقاء للأصلح” هما نفس الشيء؟
كلا! نظرية التطور و “البقاء للأصلح” هما مبدأين مختلفين. نظرية التطور تشير إلى التغيرات التي حدثت على الكائنات الحية على مر الزمن. أما “البقاء للأصلح” فهو مصطلح شائع للتعبير عن الاختيار الطبيعي. في حين أن الاختيار الطبيعي يشير إلى الآلية التي من خلالها تقول نظرية التطور أن المخلوقات ذات الصفات الملائمة أكثر لبيئاتها لها درجة أعلى في النجاة والبقاء والتكاثر، يقول مصطلح “البقاء للأصلح” بأن المخلوق الأكبر، أو الأذكى، أو الأسرع هو من ينجو وهو ما يخلق التوهم بالمنافسة أو يقلل من شأن التكاثر والتعاون. في النظرة البيولوجية، الأصلح هو من يتمتع بصفات تمكنه من البقاء والتكاثر. إن بقاء المخلوق بدون أن يتمكن من تمرير صفاته الجينية عبر التكاثر، لا يعتبر “أصلح” بيولوجيا. والكثير من الكائنات الحية تعتبر “الأصلح” بيولوجيا لأنها تتعاون مع الكائنات الأخرى بدل أن تتنافس معها.
كيف تتطور المخلوقات؟
المخلوقات لا تتطور! الأجيال تتطور(Population Evolution). لأن الأفراد يختلفون في قدراتهم وصفاتهم الخلقية. ولكن بعض الأجيال تتمكن من البقاء والتكاثر أكثر من غيرها في ظل ظروف بيئية معينة. وبالتالي فأفراد هذه الجماعات تتمكن من البقاء، وبالتكاثر تتمكن أيضا من تمرير الصفات المميزة إلى الأجيال اللاحقة. وبالتالي شعوب هذه الكائنات تتطور.
هل هناك “تعديلات جينية” أو طفرات مفيدة؟
نعم، والأدلة على ذلك كثير. وهذا سؤال بيولوجي لا يمت إلى نظرية التطور. إلا أن الكثير من نقاد النظرية، يطرحونه على أساس أنه سؤال جوهري يقدح في النظرية. والواقع أن هناك مثلا تغيرات جينية تجعل لدى الإنسان مناعة من الإصابة بفيروس الإيدز (أو على الأقل أن تكون إصابة الخلايا بفيروس HIV صعبة جدا). وغيره كثير من الأمثلة التي تعطي دلالات على طفرات جينية، تختلف الطفرات التشويهية التي تتبادر إلى أذهاننا.
هل تثبت نظرية التطور أن “الله” غير موجود؟
كلا! كثير من أنصار نظرية التطور ، وحتى المتدينين مثل البابا يوحنا بولس الثاني ناقشوا كثيرا في أن نظرية التطور المثبتة بالأدلة العلمية لا تتعارض مع فكرة وجود “الله”. وقالوا بأن نظرية التطور تشرح كيف تطورت الحياة على كوكب الأرض. ومثلها مثل النظريات العلمية الأخرى، فإن نظرية التطور تتعامل مع المادة والأجسام والاختبارات العلمية وليس لها تدخل في فكرة وجود “الله” أو معتقدات البشر الدينية.
هل هناك أدلة علمية على نظرية التطور؟
على مدى أكثر من 150 عاما منذ أن تقدم داروين بنظرية التطور بناء على الانتخاب الطبيعي، والساحة امتلأت بجبال من الأدلة التي تدعم هذه النظرية. توسعت سجلات الأحافير، واكتشف إل DNA وفهم التأثيرات الإشعاعية (radioactive decay)، وملاحظة الاختيار الطبيعي في المعامل وعلى الطبيعة، وأدلة مجموعات العوامل الوراثية على كائنات حية مختلفة، من ضمنها الجنس البشري، كل ذلك مثل تشييدا وإسنادا علميا لنظرية التطور.
والأدلة متفرعة متعددة الاتجاهات منها:
1- أدلة الأحافير: إما على حسب وجود وترابط هذه الأحافير في طبقات الأرض لمعرفة تاريخها الزمني أو بمقارنة المواد الإشعاعية مثل اليورانيوم والبوتاسيم…
الخط الإحفوري الزمني المتوفر لدينا، وإن لم يكن كاملا إلا أنه يعتبر من أفضل الأدلة التي تشرح لنا كيف تطورت الكائنات، وبوجود الأحافير الانتقالية فيه. كذلك هناك أدلة على تطور “خلوي” في أعضاء الكائنات المنقرضة.
2- أدلة من علم التشريح: تشريح الكائن الحية يتوافر على شواهد هائلة عن تاريخ هذه الكائنات. ولا يمكن تفسير تطور ميزات هذه الكائنات علميا، إلا من خلال نظرية التطور. ومنها الأعضاء الغير فاعلة مثل أصابع الأقدام الضامرة.
3- علم البيئة: وتطور وتكيف الحيوانات بتغير أحجامها. وفي الأنظمة البيئية، إما أن يتكيف الحيوان ليتمكن من البقاء والتكاثر، أو لا، فينقرض. وهذا يعطينا الدلالة على أن الكائنات الحية عندها قابلية تغيير الجينات لتتكيف أمثر مع بيئاتها.
::. تطور فتحة الأنف عبر 50 مليون سنة من باكيكيتوس إلى الحيتان
(هذه مقدمة بسيطة عن العلوم والبحوث المستمرة في هذا الميدان، إلا أن التفصيل في هذه الأدلة وغيرها قد نسوق ترجمها فيما بعد. الأهم هنا أن نشير ومن خلال المصادر الآتية أن التجارب العلمية القائمة على قدم وساق، ليست تفسيرات فلسفية لقراءة تنظيرية لأحافير، بل هي اختبارات علمية هدفها وصف الظاهرة بأكبر دقة ممكنة وعلى حسب الأدلة الموجودة).
راجع الأدلة العلمية على نظرية التطور
راجع أدلة علمية وأمثلة حية على هذه الأدلة
هل تدلنا الأحافير على كامل القصة وتاريخ الحياة؟
يقول معارضو نظرية التطور بأن الثغرات في سلسلة الأحافير تمثل إثباتا على أن النظرية غير صحيحة. ويقولون بأن الأحافير فشلت في استخراج “الكائنات الانتقالية” والتي تمثل وجود كائنات في مراحل انتقالية على خط التطور.
بالتأكيد بأن سلسلة الأحافير فيها فجوات، وذلك لأن الظروف التي تتطلب أن يتحول أي كائن حي إلى أحفورة هي ظروف نادرة جدا منذ بدء الحياة على الأرض. إن الأحافير الموجودة اليوم لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من المخلوقات التي عاشت وماتت على كوكب الأرض. ولذلك، فإن الكثير من قطع الأحجية مازلت مفقودة وربما لن توجد في المستقبل. وبالرغم من ذلك، فإن هناك كم هائل من الأحافير التي تمثل مراحل انتقالية بين السمك والبرمائيات، والزواحف والثدييات، والدينصورات والطيور في عدة أجناس حية مثل الحيتان والخيول.
بعد هذا الطرح لهذه الأسئلة، وتصحيح المفاهيم حول هذه النظرية ووضعها في صورتها العلمية الصحيحة، بقي لنا أن نفتح عقولنا ونبدأ في فهم السياق العلمي الذي تطرح فيه النظرية. هناك الكثير ممن يعرضون النظرية بصورة تجعلها مشوهة رغبة منهم في أن يسود الحديث عن أن هذه هي نظرية معتمدة على تخمين العلماء أو تفسيراتهم. وهذا يخالف الواقع والذي يزخر بمئات الأبحاث التي يمكننا أن ننظر إليها بدون أن نحكم على النظرية مسبقا